خالد الحروب
من كتاب 'وشم المدن: شظايا رجل بلا مدينة'ويصدر قريباً عن دار رياض الريس في بيروت '... ففي يوم وقوع مجزرة تمبكتو (في أحد أيام حزيران/يونيو 1994) حدس الطبيب عثمان بقرب المجزرة، فتسلل إلى خارج المدينة مع زوجته وابنتيه الصغيرتين. واتفق مع أحد العرب في تمبكتو على أن يلحق به ويزوده بالماء. وعلى بعد خمسة كيلومترات من تمبكتو، جلست العائلة الصغيرة تحت شجرة تنتظر الماء من الساعة العاشرة صباحاً وحتى بعد الزوال، عندها علم الطبيب وزوجته أن شيئاً ما قد حصل، وأن صاحبهم لم يستطع إحضار المياه لهم (قتل في المجزرة). قام عثمان بحمل ابنتيه ومشى هو وزوجته والشمس في كبد السماء، ودرجة الحرارة في الصحراء تصل إلى 45 في الظل. وما كادت العائلة الصغيرة تقطع ساعتين متواصلتين من المشي في فيافي الصحراء حتى غلى رأس الطبيب الشاب وأصابه دوار أفقده القدرة على الحركة. حاول الاحتماء بظل شجرة صغيرة ما كادوا يصلون إليها حتى فارقت إحدى الصغيرتين الحياة، وأخذت الأخرى تنازع الموت. أما الزوجة فكانت أحسن حالاً من زوجها الذي ذهب في غيبوبة كاملة. وظلاّ كذلك حتى مر عليهما اثنان من الناجين من المجزرة في المساء، ومعهما قليل من الماء. وعندما سقيا الطبيب أخذ في التقيؤ الذي استمر حتى تردت حالته، ليسلم روحه بعدها بساعتين تقريبا. وبعد وفاته بساعة ماتت الابنة الأخرى الباقية على قيد الحياة، لتبقى الزوجة بعد ذلك تعيش على ذكرى هذه المأساة السوداء للإنسان الأزوادي (الطوارق) في شمال مالي'(1).أي هذا الموت الرخيص لهؤلاء الغوالي. أي هذا الحاضر الغادر، لهؤلاء الملثمين بالنبل من يوم أن انفتح تاريخ على هذه الأرض. ملثمون بأزرق الكبرياء: في عيونهم وإليها تبرق حدة الصحراء. ومن عمقها فيض الصنهاجيين يزنّر الأفق بشفاف رباط يمني أندلسي أحمر. من رحم أساطير ملكات الجن، وفراعنة النيل، وأمراء الخيل والليل والبيداء، نسجوا لثاماً لا يُعرفون إلا به. إن سقط واحدهم في المعركة وانزاح عنه اللثام، كان عليهم أن يوشحوا وجهه به ثانية كي يتعرفوا إليه. عندما سقط عثمان وابنتاه في لظى الحر وسط الرمال الحارقة في شمال مالي، سقط لثام طارق بن زياد، من يُنسب إليه الطوارق كما تقول بعض المرويات. بدا ابن زياد مثخناً بالجراح في كل صقع تكورت فيه الضاد خجلى من الدم المراق. هو ذا وأحفاده يغوصون رويداً في الرمال، ويغرقون. سيوفهم صدئت بسرعة البرق، ثم تذرّت ساقطة حال أقفلت جفون عثمان، ولحظة قطع سكون الصحراء نحيب زوجته عليه. ابنتا عثمان ما صلّى عليهما أحد. كان الكل، على امتداد انحناءات الضاد وما تلاها، مشغولين بالتفاهة.أهو وداع الكبرياء يا سادة الكبرياء؟ أم هو الدم يتبعثر رخصاً في هذه الصحراء بين حدي الماء؟ أم هي مفارقات الأقدار والأزمان تأبى إلا أن تعاقب النبلاء؟ فهؤلاء السادة الكبار، وبخلاف احتقار البدو للأنثى، كانوا الأنبل لأنثاهم. نسبوا أنفسهم لها، وتسمّوا بإسمها، فهي عندهم أصل الكون. ولئن عاد نظامهم الأمومي إلى ملكتهم الأسطورية القديمة 'تين هينان' فلقد تواصل إلى حاضرهم كرامة وحاضرنا إحراجاً. ظل هاجس 'الطارقي' الدائم أن يكون محظياً عند امرأتين، الأولى والدته إذ يفخر بكونها أصل بطولته التي يُرجعها في الأساس 'إلى حليب الثدي الذي فتق أمعاءه لأول مرة'. والثانية زوجته، إذ يعتبرها الطارقي 'في أولى ليالي الزواج أمه، وفي الليلة الثانية أخته، وفي الثالثة تكون زوجته. فإن فسدت علاقته بها كزوجة، عاملها كأخت. وإن فسدت علاقة الأخوة، عاملها كأم، ولا تكاد علاقة تفسد بين أم وابنها، كما لا يمكن لابن أن يستعلي على أمه. وهكذا يدوم المعروف'.كانوا كما لم يعودوا أمازيغاً طلقاء، 'رجالا أحراراً'. يكاتفون الريح من تمبكتو، إلى شنقيط، إلى باماكو، ومن وإلى كل أفق هناك. تهبط فوق رموش عيونهم رمال البيد كيما ترتاح. تأوي إليها كأنما تبحث عن أمان عز في خريف اللؤم إلا خلف لثام الفوارس. هؤلاء الصحراويون ينقرضون كما الصدق ومعهم يذوي تبر الكرامة وبريق المروءات. في الحرب كما في السلم يأنفون من الغدر. لا يطعنون من الخلف، ولا يسممون رؤوس رماحهم. يكرهون ما جاء به المستعمر من بنادق ورصاص، لأنه عديم المروءة لا شجاعة فيه. يغدر عن بعد وحسب.عهدهم مع الصحراء أن الحياة سير دائم، لثام دائم برسم الكشف والفضول. لا قيد لا حدّ ولا تفاهات المكوث أو التمدين. درتها حرية تدور حيث تتقلب الاتجاهات الأربعة. يتلفحون 'دراعاتهم' الزرق، ولثامهم العالي. يهودجون إناثهم 'الواثقات بسحرهن'، فوق غيوم الجمال، ويطلقونها تشرب الريح. بطيئة هذي النياق أيها الطارقي، يرد: كذا هو التاريخ وئيد في مشيه ... وغدره.يا لنبلهم وارتقاء لثامهم. ويا لقسوة التاريخ إذ هبّ عكس هبوب ريحهم. هي ذي تمبكتو، درة تاجهم، ينبوع علمهم وموئل خيلهم. من تحت رملها تشع عظام جدودهم، وفوقه يصفر جريد حبرهم. لا معدن ذهبياً يأسر قلبهم. يلمع ذهبهم في خزائن مخطوطاتهم: من هنا مر حسن الوزان، وصار أسداً افريقياً. لم يحمل ذهباً، حمل تأملاً وقطع البحر إلى الشمال. محضها الحب إذا 'تفجرت بها صبابته وكانت له فيها منادمات، لم يُنسه إياها بلاط البابا في روما'. فَرّدَ حسن الوزان عاشق تمبتكو أشرعة سؤالاته نحو شمال البحر، ناثراً حب مدينته هناك. مات الوزان وراح الحب. غاب قمر وطلعت شمس حارقة، وجاء شمال البحر إلى تمبكتو غاصباً، يزمجر فوق عربات تحمل الرصاص والموت. جاء طامعاً بذهب المدينة ومعدنها، بحبرها وزهو مخطوطها. شبك الرجال الزرق سواعدهم دفاعاً عن مدينتهم. تعاهدوا: من لم يركعهم إغراء ذهب الجنوب، لن يركعهم جبروت جيش الشمال. أرضاً وسماء أسرتهم فضاءات الحرية وحسب فسجدوا لها. فقراء أحرار ... ولثامات لا تفك. وفحش الغنى يستعبد سواهم.جاءهم الشمال بالرصاص وبالحساب. يد تقتل وأخرى ترشو. قدم تقسو بدوس الرمال فتمحو ختم أقدام الطوارق، وقدم ترسم حدوداً جديدة تقطّع ما دأب واتصل. بين غدرة، ونهبة، ورشوة، قامت سدود في فضاء حرية كان الهواء لهؤلاء. صار ممنوعاً عليهم أن يسرجوا جمالهم من دون ختم وجواز سفر. صاروا تابعين لأقفاص، ومطاردين من حراسها. ما عادوا يسبحون بعشق صحرائهم، ويسيحون بجمالها.يد الشمال ما راق لها أن يظل الطوارق يطرقون مجاهيل الصحراء فيعلمونها. ما راق لها أن يظلوا خارجين عن 'القانون' وعن 'الخضوع' وعن 'التفرنس'. دقت بينهم وبين جيرانهم السود اسفين اللون. وضعتهم يد التفريق تحت منشور الأبيض والأسود، وقالت لجيرانهم هؤلاء البيض العرب هم وحدهم أعداؤكم. صار الأسود المظلوم أبداً مجرماً، وصار الطارقي الحر أبداً مطارداً، وابتسم الغريب انتقاماً ... وظلت الرمال تنزف على نزيف عثمان وابنتيه ونحيب زوجته المتردد أبداً في صحراء تيتّمت.
' كاتب من فلسطين يقيم في بريطانيا