samedi 25 octobre 2008

ثقافة الصحراء المفقودة

لوكليزيو قيل عنه بأنه: ابن القارات جميعها. وبأنه أديب القطيعة والمغامرة الشعرية ، والنشوة الحسية ، ومستكشف إنسانية أبعد وأعمق من
الحضارة السائدة.مال قلبه للجنوب ودافع عن الأقوام المهمشة والمضطهدة عبر روايات تميّزت بلغتها الشاعرية البسيطة ظاهرياً ، المشحونة بالعاطفة
والأناقة والإيحاء.إنه الكاتب الفرنسي جان - ماري جوستاف لوكليزيو ، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب مؤخراً.بدأ حياته الأدبية في بداية العشرينات ، ككاتب مهم حيث حققت روايته الأولى (التحقيق) ، عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره
، رواجاً كبيراً ، وفازت بجائزة فرنسية. كان لزواجه من امرأة مغربية عام 1975 ، الأثر الكبير على حياته ، التي قضاها متنقلاً ما
بين نيس ونيجيريا والمكسيك وصحراء شمال إفريقيا وأمريكا الوسطى. في عام 1980 حقق لوكليزيو إنجازه الكبير بإصدار روايته (الصحراء) التي قالت عنها الأكاديمية بأنها "تحوي صورا عظيمة لثقافة
مفقودة فى صحراء شمال أفريقيا تقابلها رؤية لاوروبا من خلال عيون مهاجرين غير مرغوب فيهم ،"والتي تُعتبر من أهم رواياته.
الصور والرؤى الهلوسية التي تظهر في الرواية هنا وهناك ، كما لو أنها نبتتْ من اللاشيء ، تُعطي القارئ لمحة ولكن مختصرة ،
عن عالم من المهمّشين. فأحداثها تقع في صحراء الشمال الإفريقي ، حيث تعيش قبائل الطوارق الأمازيغية ، أو قبائل (الرجال
الزرق). ومن المعروف بأن الطوارق شعب أمازيغي مثل بقية شعوب شمال أفريقيا ، وهم شعب قديم يحكم حياتهم نظام عتيق من
التقاليد والعادات التي ورثوها عن أجدادهم وما زالوا يتمسكون بها. فقد تشبّثوا خلال قرون طويلة بتقاليدهم خصوصا في اللباس ، إذ
يرتدي الرجال دائما غطاء للوجه عند تجولهم في الخارج ، وقد يكون هذا التقليد نتيجة الظروف القاسية للبيئة الصحراوية التي
يعيشون فيها ، ولكنّ له دلالات ثقافية أكثر. ويُسمى اللثام بتاكلموست حيث أنه من العيب على الرجل أن يُظهر فمه للآخرين..
ويفضّلون تسميتهم ب"إيماجيغن" أو "إيموهاغ" ومعناها بالعربية (الرجال الشرفاء الأحرار).تبدأ أحداث هذه الرواية الفاتنة هناك ، في الصحراء الكبرى في بداية القرن العشرين ، إبان الاحتلال الفرنسي لشمال إفريقيا. حيث (
لالآ) حفيدة السكان الأصليين ، المتحدّرة من أجدادها الرجال الزرق المعروفين بكبريائهم وقوتهم وشجاعتهم. لم يخضعوا أبداً للاحتلال
الفرنسي ، لذلك تعرّضوا للقمع الشديد والتهجير. تتعرف (لالآ) إلى رجل غامض ، ثمّ على راعْ شاب تُغرم به وتحمل منه. تهرب
الفتاة للصحراء ثم تقودها أقدارها للجنوب الفرنسي. تعيش هناك في مرسيليا حياة سيئة ، تقيم في فندق رخيص ، وتعمل فتاة غلاف
في إحدى المجلاّت. تتعرض (لالآ) لإغراءات بحياة أفضل ، لكنها ترفض كل ذلك ، لتعلّقها بأجدادها وعاداتهم وكبريائهم ، وبسبب
نوازعها الدينية وإيمانها العميق. وتشعر بعد فترة بأنها تطهّرت من ذنوبها ، وتكتشف أن عالمها الحقيقي هو الصحراء ، المكان الوحيد
الذي تتماهى فيه ، وتجد روحها ، وتراه كمعادل موضوعي لوجودها ، فتعود إلى صحرائها ، إلى موطن الأجداد.. إلى بلد الرجال
الزرق.يروي الكاتب روايته ، كأسطورةْ للشفافية ، وبما أن الألغاز والغموض هما جوهر الأسطورة عموماً ، وفي كتابة لوكليزيو بشكل خاص
، فإن القارئ يواجه فيها مجموعة من الإشارات المتغيرة بشكل دائم والأحاسيس التي تلفظ حيواتهم ، بشفافية صامتة.(الصحراء) أسطورة للشفافية ، تتعلق بتجربة حياتية أصيلة ، تبدو أحياناً تجربة شخصية ، ولكنها تتخطّى ذلك وتسمو عليه في معظم
الأحيان. فهي انعكاس لحقيقة حية محترقة ، نجدها في أرواح الشخصيات. فالشخصيات التي ينسجها الكاتب من خياله ، ليست من
لحم ودم ، بل تبدو ككائنات خيال الظلّ في حضورهم الطاغي ومسعاهم ، في حركتهم الدائرية وأسفارهم المستمرة. ونلحظ في الرواية
أن الوجود الفردي يتلاشى ويذوب لمصلحة الحركات الجماعية. وتبدو العلاقات العاطفية فيها والعلاقات الحميمية العميقة بين
الشخصيات مُستَبعدة في الرواية ، وبدلاً من ذلك يحركها الجنس العنيف والعلاقات اللاشخصية. وفي حين تتحول اللحظة إلى حاضر
سرمدي ، فإن الحب الذي يصل الأرض بالسماء ، هو الذي يمنح البشر خلودهم ، بأفراحهم وأحزانهم ، جيلاً بعد جيل ، في متوالية
من الأقدار المتشابهة.في الفصلين الأول والثاني من الرواية ، وهما الأكثر تكثيفاً ، تأخذ الأحداث مكانها في الصحراء المغربية (صحارى) ، حيث يُعاد بناء
أسطورة قديمة ، ولكن بطريقة غير تقليدية. فالكاتب لا يتعامل مع الحوادث الخارقة أو الكائنات الخيالية أو حياة الآلهة وأبطالها
وبطلاتها أو القوى الخارقة للطبيعة ، ولكنه يكتب عن قبائل البرابرة ، الذين يقطنون شمال إفريقيا منذ حوالي 3000 قبل الميلاد.
وبالرغم من أن أول دراسة عن البربر كانت تلك التي كتبها المؤرخ والفيلسوف العربي (إبن خلدون) ، فإن المعرفة الجديدة عنهم ،
بدأت بكشف الكثير عن أصولهم. تركّز الرواية على (الرجال الزرق) أو الـ(الطوارق) وهم محاربون قدماء من صحراء إفريقيا ، تصف الرواية حياتهم الصعبة ،
الخشنة والقاسية. وهم يرتدون العباءات واللثام باللون الأزرق الغامق والعميق ، يصبغون أجسادهم باللون الأزرق ، الذي تظل آثاره
على جلدهم المزرقّ ، حتى بعد زوال الصبغ. أما شخصيات الرواية ، فإنهم كأبطال الأساطير القديمة ، وُهبوا نزعة دينية قوية ،
فالعالم الصغير الذي يعيشون فيه ويسكنهم كما يسكنونه ، يمّكن كل فرد منهم ، أن يعيش ليس فقط خارج الحاضر الذي نعيشه ، ولكن
أيضا في فضاء خاص متسع يصنعونه بأنفسهم. والتجربة المقدّسة بالنسبة لهم ، سواء كانت على شكل صلاة ، أو على شكل علاقة
خاصة بالطبيعة ، أو على شكل فعل حب ، فإنها تدعو المتعبّد لاختراق ما وراء وما هو داخل وما يتقاطع مع ، ما يعتقده الآخرون
الذين لا يملكون البصيرة ، غير قابل للنفاذ والكشف. إن عالم لوكليزيو في هذا السياق ، يتبع الأنماط الأسطورية القديمة ، حيث الفرد يُنزع من أنماطه المرجعية ، ليدخل في تجربة
جماعية. وبالرغم من أن الكاتب لم يكن غافلاً عن صعوبة وقسوة حياة البربر في صحرائهم الشاسعة ، إلا أنه يقارن حياة الرجال
الزرق ومعيشتهم بمعيشة سكان المدن ، بطريقة تفضيلية. فالمجتمعات الصناعية بمصانعها والأجهزة التنظيمية والتلوث والأنظمة
القانونية وغيرها ، تستعبد البشر ، لأنها تقطع صلتهم وتُبعدهم عن مصدرهم ..عن الطبيعة الأم. يعارض لوكليزيو من خلال وصفه لحرية العبادة لدى الرجال الزرق ، وسعادتهم المطلقة مع التعايش مع الطبيعة الأم: الصحراء ،
يعارضُ العقيدة المنظّمة التقليدية ، بطقوسها وقوانينها وأحكامها وتأكيدها على الربح. فالعقيدة المنظمة بحسب لوكليزيو تُعيق التدفق
الروحي والعاطفي نحو الألوهية. ويعيد الكاتب فضاء الصحراء للبربر الهائمين المستكشفين ، الذين يقدّمون عباداتهم بحرية ويعيشون
تجربتهم اللاهوتية ، في حالة دائمة من التجدد

 

blogger templates | Make Money Online