لقد تناولت في مقال سابق التركيبة السكانية للشعب الأزوادي وأبرز مظاهره الإجتماعية ، والآن ومن خلال ثنائية ضاربة في أعماق منطقه الثابت وهي السلم والمسالمة من جانب والإصرار على خوض الحروب للدفاع عن الكرامة ورفض الخنوع . هو موضوعنا في هذا المقال ولكن أود الإشارة إلى أنني لست بصدد تناول الموضوع بالسرد التاريخي أو الوثائقي بقدر ما أحاول أن أضع القارئ أمام خطوط عريضة تمكنه من ربط الوقائع التاريخية ذات العلاقة الواضحة بالأحداث القائمة ومن ثم محاولة فهم معاناة شعب المثلث الأصفر في عصر شريعة الغاب
إن الجانب الأول من تلك الثنائية هو الترحيب بالموت من أجل الشرف والصلابة في التعامل مع العدو الشرس وهذا من أبرز السمات التي قادت الأمة إلى خوض معركة الغزاة الأول وقد ضرب الأزواديون طوارقا وعربا أروع المثل في التصدي له بكل شجاعة وإيمان . والحفاظ على حدودهم الجغرافية وديمغرافيتهم السكانية في أعتى الظروف وعلى مر الأزمان والعصور
أما الجانب الآخر من الثنائية فهو تجذر ثقافة السلم في موروث حضارة عريقة كانت لا تعرف معنا للهدنة ، بل تعتبرها ضربا من الهزيمة ، حتى تمازجت ـ ومنذ أربعة عشر قرنا ـ بمنظومة الأخلاق الإسلامية الرفيعة ، فأحدثت نوعا من التوازن في المجتمع ، وما إن سارت قيادات المجتمع الأزوادي خطواتها الأولى نحو تأسيس نواة للدولة المدنية الحديثة عبر سلطنات مترامية الأطراف على امتداد المثلث الأصفر حتى استيقظت الخلافة الإسلامية على حملات الإستعمار الأوربي كما هو معروف واستيقظ الجميع على عصر التقسيمات الحدودية واقتسام الكعكة من قبل رجال الحكم في أوروبا الأمر الذي شتت الجهود الآنفة الذكر وجعل المنطقة في انفلات أمني وانعدام النظام وما إن عانى الشعب من ويلات الإستعمار حتى تعالت الأصوات بالجهاد لطرد جيوش المحتل فتضافرت الجهود في تحقيق هذا الهدف السامي وما إن تم لهم ذلك حتى عهدت فرنسا إلى الرجل الأسود في الجنوب المطيع الذي كان يوما من الأيام يبيع أبناء جلدته للسيد الفرنسي لذا كان الثمن مكافأته بقيادة المستعمرة فوضعته في سدت الحكم واحتضنته ليكون مندوبها في نهب ثروات البلاد
من هذا الواقع ـ وعبر زمن ليس بالقريب ـ تكونت مفاهيم وأطر جعلتنا أمام تباطئ ملحوظ في نهوض القيادات الأزاودية المتعاقبة إلى ما قبل ثورة الغضب الكبرى في تسعينات عصرنا الحديث .
وهنا لا بد لنا أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن ما وصفناه بـ (التباطئ) في الحقيقة لا يعتبر في أحسن الأحوال مظهر سلبي للعقل الأزوادي في التعاطي مع قضاياه المصيرية بل يجدر بنا كمتابعين أن ننظر إليه كنمط سياسي قديم متجدد في جميع الحضارات العريقة إنه من مظاهر سياسة النفس الطويل عندما تختل موازين القوة وتنعدم الندية – فهو نوع من التغافل لا الغفلة - إلا أننا في حالة مجتمعنا الأزوادي نجد أنفسنا أمام تسارع في وتيرة الأحداث مع بقاء الحس القومي غير متأثر بالعوامل الخارجية - كما أريد له من أعدائه - فهو حبيس أبراج عاجية تحيطه بهالة قدسية وفق منظومة وراثية نجد الأعراف والتقاليد من أبرز ملامحها العريضة في حين أن تلك المضامين – الآنفة الذكر - للأمن القومي تحمل في طياتها معايير غير موضوعية وبعيدة عن قراءة الواقع بشيء من الحقائق لأنها أولاًَ ذات بعد عاطفي متغلغل في ثقافة المنطقة الصحراوية وثانياً تكريسها لمعاني الفضيلة في المغامرات البطولية وتهميش المقومات المادية لاعتبارها مظاهر متدنية يجب إقصاؤها والتعالي عنها قدر الإمكان .
فهذه النظرة السلبية تجاه مقومات الحياة المادية والعمل تحت سقف العاطفة المترسبة قوضت من إمكانية إستغلال المجتمع الأزوادي لقدراته المتاحة وتنمية موارده البشرية والطبيعية .
أخي القارئ هذا باختصار ما لا يمكن تجاهله إذا أردت قراءة ما يحدث في منطقة أزواد شمال مالي