mercredi 20 août 2008

الرحلة في أعماق الصحراء الكبرى

بينما كانت الشمس ترسل أشعتها الأرجوانية، لاسعة بصمت الرجال الزرق والرمال الحمراء في الصحراء الكبرى، استقبلنا الطوارق معرفين إيانا بتقاليدهم من خلال لوحات متنوعة ومتتابعة، فهم الذين يتلفعون مغطين رؤوسهم حاجبين نصف وجوههم فلا تظهر سوى العين. يمتطون ظهور الجمال جماعات، ويسخرون الحمير لنقل أمتعتهم، وينتقلون سيراً على الأقدام في معظم الأحيان. احتفالات الأعراس لديهم تستمر سبعة أيام، يمكث فيها العروسان داخل خيمة، ولا يبرحها أحدهم إلا للضرورة وتقتضي عادة الطوارق أن يغادر العريس خيمته بعد سبع ليال يقضيها مع عروسه، ولا يعود إلا ضيفاً على زوجته خلال العام الأول، وبعد ذلك يلتئم شملهما. وتمتد فترة الخطوبة مدة طويلة قد تصل إلى خمس سنوات، وغالباً، يكون المهر إبلاً أو ماعزاً، يتراوح بين اثنتين إلى ستة.وتحتل المرأة لدى الطورق مكانة كبرى فلا يتم شأن ذو أهمية إلا بموافقتها، وفي معظم الأحيان تعمل النساء ويميل الرجال إلى الراحة. ويخضع الطوارق لنظام قبلي يفرز قياداته من النبلاء، ويكون الزعيم هو أمين العقّال، ويدعى: “أمينوكال”، ويجب أن يكون من النبلاء من جهة الأم. وتقرأ في وجوه الطوارق آثار التاريخ التي تدل على طبقية اجتماعية أبقت السكان السود أسفل السلم الاجتماعي وهم يعملون في البساتين، اما في الأعلى فهناك السادة ذوو التقاطيع الدقيقة المنشغلون بقضايا العلم والدين.

ويسترعى الانتباه في كل مدن الجزائر كثرة مدارس تعليم القرآن، فالحضور الديني مستمر ولا يُضاهيه حضور آخر. ذلك أن العمق التاريخي لهذا التقليد يستمد جذوره منذ بدايات الاستعمار الفرنسي، ويبدو أن الجزائريين وجدوا في عروبتهم وإسلامهم متراساً للصمود أمام الاستعمار. ولذلك تجد الزوايا في كل مكان، وفيها مكتبات متواضعة، إلا أنها تحتوي على مخطوطات قيمة ووثائق خاصة، فلا تمر بمدينة أو قرية نائية إلا وفيها زاوية “سيدي بلقاسم” أو “سيدي بوعبدالله”.

كان يرافقنا في تلك الرحلة في أعماق الصحراء الكبرى متخصص في الجيولوجيا، يدعي “كيرزبي”. وشاهدنا بصحبته رسوماً عجيبة للانسان البدائي نحتت على صخور “جانيت” وهي تشبه إلى حد كبير رسوم الأطفال في العصر الحالي. وكان أجدادنا الأوائل يعتقدون بفائدة تلك الرسوم في جلب الأمطار وقدرتها على درء الأخطار.

دي لاكروا: لو�ة نسوة من الجزائر

دي لاكروا : لوحة نسوة من الجزائر

كان يقود السيارة سائق يدعى “أوهندا” وكان كالملاح في قيادته، فالكثبان الرملية والتعرجات في الصحراء لا تنتهي. وأذكر أن كريزبي أفادنا بأن سبب تسمية الطوارق تعود إلى أنهم تركوا بلادهم الأصلية ولذلك سُموا بـ “التوارك” وحُرِّفت الكلمة - للتسهيل - إلى “الطوارق”. وأشار أيضاً إلى أن سبب تغطية الوجوه يعود إلى مواجهة حربية في قديم الزمان، حيث أراد الطوارق أن يتخفوا وأن يبدوا للأعداء في أشكال النساء لخداعهم. واستمرت تلك العادة لصيقة بهم. ولدى تناولنا وليمة العشاء مع الطوارق في قلب الصحراء، وكان عبارة عن أربعة جمال صغيرة مشوية ويسمونها “جعود” وهي بالفعل قعود وكأنها ولدت جالسة لنأكلها. جاءت إلينا النسوة من الطوارق وجلسن إلى جوارنا موزعين أنفسهن على الضيوف لتجاذب الحديث بود وأدب، وعرفنا أن ذلك من عاداتهن، بينما كان الرجال يصبّون الشاي الأخضر ويقدمون الرقصات والأهازيج الشعبية التي تعبر عن الحرب والفروسية. وإذا غاب أحد أفراد الطوارق عن عشيرته نحو ستة أشهر فإن ذلك لا يثير القلق أو دواعي الاضطراب. فربما يكون في طريقه إلى أحد الأعمام أو الأخوال في تشاد أو مالي. وإذا تجاوز غيابه تلك المدة فإن القبائل تبدأ في البحث عنه، فهو قد يكون مفقوداً في متاهة الصحراء.

71.jpg

مع الطوارق: وليمة عشاء في قلب الصحراء

وتبدو مناظر الصحراء للوهلة الأولى رتيبة ومتكررة، وربما مملة في بعض الأحيان، غير أنك لدى تعودك النظر إليها تكشف لك عن تنوعاتها. فهذا بحر من الرمال وأمواجه المتحركة تمارس عليك لعبة الخداع بثباتها، وتلك مملوءة بالحجارة الصغيرة، وهذه فيها بعض الصخور المتوحشة والحصى الملساء. وهكذا تتنوع الطبيعة وتتشكل. فرياح رملية تبدو بلون الدقيق الأبيض، وأخرى كدقيق أحمر ولا تكاد في بعض الأحيان تتبين سوى معالم ذاتك ووجه امرأة جميل يتمايل وسط أمواج الصحراء، والرياح تصدح بسيمفونية الطبيعة بينما الشمس تنحدر خلف الكثبان الرملية في خجل، والسيارة تنهب الصحراء وسط الصمت في منطقة هي أفقر بقاع الأرض خضرة، وقد لا تجدها إلا عند الوادي، ومن الطائرة تستطيع أن ترى بسهولة مجرى نهر جف إلى الأبد، وبحراً من الرمال كان في الأزمان الغابرة يعج بالكائنات البحرية، هنا تشاهد الماضي السحيق للطبيعة وكيف تبدل. ولم يتبق إلا أن ترهف السمع إلى صمت الحياة فيه. وبدلاً من أن تسبح فيه الأسماك، تجده مملوءاً بأسماك الصحراء من سحال وأفاع.

رأينا خلال تجوالنا امرأة تنسج على نول، والزمن أبيض لا يتحرك، وأخرى تشكل الطين على هيئة أوان فخارية بدائية، وثالثة تدق الريح والتمر، وسيدة من خارج الحياة تشكل حلياً من الفضة، والذاكرة الحية لحضارة موغلة في القدم. وخلال تجوالنا في “جانيت” كانت كنزة تلتقط لنا الصور هنا وهناك، وكأنها تقتنص الزمن وتجمده لثوانٍ، ولا يتمالك من ينظر إليها إلا أن يبلع ريقه ويبتعد قليلاً من الحياة، وغادرناها محملين بعبق التاريخ وأشباح تتمايل من حولنا لا قبر لها، وتركنا الجميع في سجن سقفه السماء وحدوده صحراء كجملةٍ لا تنتهي

 

blogger templates | Make Money Online