أي شيء في تنبكتو قاد زعماء العالم في الشرق والغرب إلى زيارتها؟ ومن أجل ماذا تعلق الهائمون بها من العجم والعرب على حد سواء، وهي العائمة في صحراءٍ كادت تطمرها، لولا أن عشاقها يمدونها بحب... كلما مد الفناء إليها يداً؟
مركز «أحمد بابا» للمخطوطات الإسلامية والعربية في تنبكتو.أي وفاء وعدل هذا الذي يجده عشاق تنبكتو منها؟ فهي – مثلما يقول أحدهم عبدالله ولد محمد المنذر – «قسمت أيامها ولياليها بين الهائمين بها، فكان لها مع كل طائفة منهم يوم، وساعة بوح ٍ لا تتخلف عنها. إنها بعدل وحكمة وزعت مفاتنها بينهم، وأعطت رؤساء الدول مثل البؤساء. استقبلتهم جميعاً برمالها الذهبية. ولم تتشح لأحدهم بالورد ولم تتعطر. خصصت للعبيد – قديماً – سوقاً مثلما هيأت للكتب سوقاً أخرى».
تلك هي تنبكتو... على رغم ندوبها لم تزل بكل مفارقاتها تصارع الرمال الزاحفة إليها، وتتحدى الفناء.
هبطت بنا المروحية آتية من باماكو - عاصمة مالي التي اكتست بثياب من الخضرة وأشجارالبرتقال والمانجو، فيما السحب تدنو منك... كأنها تتوسل إليك أن تبقى. في مطار تنبكتو بعد ثلاث ساعات من الطيران، أين السحب؟ أين الخضرة؟ أين الهواء العليل؟ لا شيء مما تركناه في باماكو هنا.. درجة الحرارة تتجاوز 40 درجة. العواصف تلفحك بنارها. لا شيء يستحق العشق هنا، قلت في نفسي!
بدا المطار معقولاً، بعد ذلك قيل لي إن البنك الإسلامي للتنمية أقامه للمدينة، بقصد أن يكون دولياً إلا أن حكومة مالي أبقت عليه محلياً! نظرت حول المطار يميناً وشمالاً مثل بقية الركاب الأجانب. فلم أجد أي بنيان أو عمارة. فأين تنبكتو؟
بقيت دقائق أنتظر أحد سكان المدينة (محمدون أق (بن) أكحتي) الذي أوصاه مرافقي أحمد في باماكو باستقبالي. أثناء الجولة في محال المطار التجارية، استوقفني قميص عليه صورة جملين وعبارة سألت عنها فقالوا معناها: «كنت في تنبكتو وسأعود». عدت بالسؤال مباشرة إلى شخص بدا من سحنته غربياً إلى جانبي قائلاً: «هل كنت في تنبكتو وعدت الآن»؟
أحد الحاضرين تطوع بترجمة سؤالي. ضحك الغربي على طريقته وسألني بدوره: «هل هذه أول زياراتك للمدينة؟» أجبت: «نعم، ولا أعتقد بأنني سأعود». ضحك أكثر، وأضاف: «ولكنك ستعود مثلي، فهذه زيارتي الثالثة لتنبكتو، ستسحرك مثلما سحرتني»!
لم ينته الزائر الغربي من حديثه حتى جاء مضيفي، وذهبت معه في سيارة استأجرها إلى المدينة على بعد ثلاثة كيلومترات تقريباً.
كانت فجيعتي أعظم عندما شاهدت المدينة. ظننت تنبكتو «إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد». فإذا بها مجرد حي من الطين يسبح على تلال من الرمل الأبيض. لو جئتها سائحاً لعدت من هول الصدمة مباشرة، ولكنني جئت في مهمة صحافية.
ان الصدمة لم تدم طويلاً. وهذا السر الذي أخذ بألباب الزعماء والأدباء والذواقة معاً. مدينة لا تملك من المقومات سوى المياه والكهرباء، وتسحر الإنسان بقدرة فذة. إنها قبلة مناسبة لأولئك الذين يعشقون التاريخ والبساطة والأسطورة.
في المساء نتجول ثلاثتنا: الحسن أق تكين ومحمدون أق أكحتي وأنا، في أزقة المدينة. الحسن يفيض في الحديث عن تاريخ أي بقعة، وأسطورة أهل المدينة حولها، وهو يتحدث بلهجة الطوارق (تماشق) تارة وبـ «الحسانية» لهجة عرب تنبكتو تارة أخرى.
مضى الحسن وكل حديثه في سياق الخرافة والأسطورة، وهو يتحدث عن مقابر الأولياء وشد الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية الرحال إليها، حتى إذا أتى على محل في وسط المدينة زعم أنه فندق ينزل فيه كل عام الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر!
لم يهتم أق تكين (45 عاماً، قضاها كلها في تنبكتو) بدهشتي وقال: لماذا تستغرب؟ لم يكن جيمي كارتر الزعيم الوحيد الذي أتى إلى هذه المدينة التي تحتقرها. زارها الملك فيصل بن عبدالعزيز، وزايد آل نهيان، وجاك شيراك، وكوفي أنان... وغيرهم».
تبدأ أول أسطورة في المدينة عند أول إنسان أنشأها، ويقولون: «إن المدينة بنتها قبيلة إمقشرن التي تعود أصولها إلى الأشراف، ومنهم المرأة التي نسبت إليها المدينة، فالاسم مركب من كلمتين طارقيتين «تن» أي صاحبة و«بكتو» وهي اسم المرأة».
وفي المتحف البلدي الذي تضمن وسائل الحياة البدائية للسيدة «بكتو» التي اكتسب اسمها انتشاراً واسعاً بحمل أشهر مدينة إسلامية وعربية في صحراء العرب والطوارق له، يوجد دلو، وخيمة من خيش، وبئر، وبكرة من خشب تجسد وسائل حياة تلك المرأة، فيما يضم المتحف أدوات من حجر كانت تطحن به طعامها، وآنية من قرع متعددة الأصناف، وأخرى من الفخار، وأشياء مختلفة الأغراض.
الباب المربوط بقيام الساعة
إذا ما تقدمت يسيراً نحو البوابة)ناحية المدينة القديمة، تجد الناس جماهير محتشدة على الباب الذي يزعم أهل المدينة أنه إذا فتح، تقوم الساعة. كأن مفاتيح القيامة بيد السنغائية التي تحرس ذلك الباب.
ويروي بعض سكان المدينة أن أحد الأمراء السعوديين طلب من الحارسة أن تسمح له بفتح الباب في مقابل مبلغ ٍ من المال، فارتعدت الحارسة خوفاً من أن تنزل القيامة على الناس بغتة، فقالت له: «أنا لا أستطيع منعك، ولكنني لست مسؤولة عن مصيرك والناس الذين حولك عندما تفتح الباب»! وبدهشةٍ ترقب الزوار الأمير وهو يفتح الباب الخشبي بعد دهمه برجله، فلم يجد وراءه غير طين وخردوات. لكن الذين يقتاتون على الخرافة أعادوا ترميـمه من جديد. وهـكذا لم تقم الساعة إلا على الباب المتهالك.
الملَك الذي يحرس تنبكتو
ويبلغ الاعتداد بالنفس ذروته حينما يزعم أهل تنبكتو أن ملـَكاً على صهوة جوادٍ نزل من السماء، انتدبه ربه لحراستها من الشياطين والأشرار، وفي وسط المدينة اليوم تنصب وكالة السياحة تمثالاً لـ «الجواد الأبيض» يمتطي صهوته رجل بجناحين، في إشارة إلى الملك المزعوم، الذي لم يدفع عنهم – طبعاً – كل الغارات التي شنتها حكومات ومحتلون استهدفوا المدينة المقدسة في نظر أهلها!
إلا أن فرسان تنبكتو العرب والطوارق، على رغم ذلك، سجلوا مواقف مشرفة ضد المحتلين الفرنسيين الذين اعترف أحدهم (بول مارتي) في كتابه عن قبائل المنطقة (كنته – كلنتصر – البرابيش) بأنهم واجهوا - أي الفرنسيين - منهم مقاومة شرسة، خصوصاً من المجاهدين: فهرون، ومحمد علي الأول الشهيربـ «إنغونا»، ومحمد كاوصن واللاّدي أق البشير، ومحمد علي أق الطاهر، وغيرهم.
وإلى هذه المجموعة من المجاهدين الذين توالوا على مقاومة المحتل الفرنسي في سلطان تنبكتو وما يتبعه، يعود فضل فشل كل الأطماع الاستعمارية في تلك الناحية، إذ يقول المؤرخ الطارقي العتيق سعد الدين «ولا نعرف أن دولة بعينها استطاعت استتباع قبائل الصحراء بالقوة، أو أن الطوارق أنفسهم استطاعوا تكوين دولة مستقلة، بعد سقوط دولة المرابطين، والمملكة الوحيدة التي انقادوا لها ودخلوا تحت سيادتها هي المغرب».
سور أقامته اليونسكو على المقابر التاريخية كلها في تنبكتو.ومع أن المقومات الثقافية والتاريخية التي اشتهرت بها المدينة باتت منها اليوم شبه خالية، إلا أن أصالتها التاريخية ومكانتها القديمة، جعلتاها تحتفظ بشيء من ذلك، وإن بصورة دون التي سادت في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية والعربية فيها، إبان ملك سلطان مالي المسلم منسا موسى - الذي حكم بين 1342 و1360، ويعد صاحب أشهر رحلة حج في التاريخ، بحمله في أول رحلة قادها إلى الديار المقدسة بعد ملكه 12 طناًّ من الذهب، الأمر الذي أدى إلى انخفاض سعر هذا المعدن الثمين في أسواق القاهرة. ولم تزل المدارس العربية، ومراكز المخطوطات الإسلامية، والمساجد، والزوايا العلمية، إضافة إلى المقابر التاريخية التي تضم بين بطحائها نحو 360 من الأولياء الذين يتبرك بهم أهل تنبكتو، ذات حضور مقبول.
وفي هذا الصدد، يشار إلى أن منظمة اليونيسكو سجلت والبنك الإسلامي للتنمية رقماً قياسياً في الاهتمام بهذه المدينة العربية والتاريخية، فكما أقام البنك لها مطاراً جوياً يربطها بالعالم، سوّرت «اليونيسكو» مقابرها التي تعد واحدة من أهم المقابر في العالم، حتى عُدّت تنبكتو بأوليائها ومقابرها (كربلاء الصحراء)!
هكذا تنبكتو اليوم فكيف كانت من قبل؟
يروي الدكتور الهادي المبروك الدالي في بحث له عن (تنبكتو) أن المدينة شرعت في بناء منازلها ذات الأسقف المنتظمة بعد أن حكمها الملك (منسا موسى) بفترة قليلة. وأشار إلى أن الحسن الوزاني، وهو عالم مغربي زار (تنبكتو) بعد عهود من حكم (منسا موسى) لها، وصف المدينة بأنها «ذات جمال رائع، وكان أهلها يدينون بالإسلام، ويحبون السنة، ويحاربون البدع، فلهذه المدينة فضائل عدة ، فإن من دخلها خائفاً وجد الطمأنينة ومن سكن فيها عاماً أو أكثر نسي فعلته وتاب عند دخوله لها، فهي دار فقه وعلم وصلاح، إذ سكنها صفوة من العلماء والفضلاء، حتى لا يوجد مكان من المدينة إلا وفيه ولي من أولياء الله الظاهرين والباطنين»، كما قال عنها السعدي «ما دنستها عبادة الأوثان، ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين وملتقى الأولياء والزاهدين». أما الآن فيها (خمس) كنائس!
أما أهلها فقال عنهم: «امتازوا بالسماحة فلم يكن منهم من به فظاظة، وكانوا كرماء، يحبون الغريب ويحترمونه، ويقدمونه على أنفسهم، ولا ينسون من عاشرهم من الناس».
ومع أن السعدي - كما ينقل عنه الدالي - رأى أن ذلك «ليس بغريب فالإسلام حمل معه إلى تلك الجهات الصفات الحميدة التي كان لها تأثيرها بين الشعوب الافريقية التي حملت بدورها المؤشرات الحميدة إلى أرجاء السودان الغربي، فلا عجب إذاً أن صارت تنبكتو مقامها من السودان مقام الوجه من الإنسان»، إلا أن الصفات التي امتاز بها أهل تنبكتو ربما كانت هي السر الأكبر في ولع الناس من كل الطبقات بها، على رغم التحول الكبير في السكان، وقسوة ظروفهم المعيشية عكست حالها في عهدٍ، كانت فيه ملتقى القوافل، مثلما هي ملتقى العلماء والأولياء.
ويؤكد السعدي نفسه أن العلماء وأهل الفكر في ذلك الحين «وجدوا تشجيعاً من أهل تنبكتو وملوكها، الذين أغدقوا عليهم بسخاء، الأمر الذي أدى إلى بلورة حركة علمية وأدبية واسعة النطاق لم يعرف السودان الغربي لها مثيلاً، ولم تكن الصحراء الكبرى حاجزاً لتدفق مظاهر الحضارة من شمال القارة الأفريقية وجنوبها وغربها في يوم من الأيام، بل كانت المؤثرات الثقافية والفكرية تتسرب من الشمال الأفريقي إلى السودان الغربي والأوسط وكانت الحضارة التي شهدتها مدينة تنبكتو أصدق مثال لذلك، فقد ازدهرت ثقافياً متأثرة بالتيارات الفكرية والحضارة الوافدة إليها من الشمال الأفريقي لا سيما ما بين القرنين السادس والتاسع الهجريين، الـ 12والـ 15 الميلاديين. ووصلت تنبكتو في هذه الفترة إلى قمة مجدها في تطورها العمراني والثقافي».
ويعود تأسيس المدينة إلى عام 1100، عندما أقام الطوارق مخيماً لهم في المنطقة، تحرسه سيدة أفريقية اسمها «تنبكتو» كما جاء في دراسة أفريقية عن مملكة مالي الإسلامية.
وجاء بحسب رواية الدراسة، أن المدينة عرفت باسم السيدة تنبكتو «وسرعان ما توسعت وأصبحت من أهم المدن التجارية في مالي... لوقوعها على نهر النيجر... كما عرفت بأنها المدينة الإسلامية التي لم يسجد أحد فيها الاّ لله تعالى... بحسب ما جاء في كتب المؤرخين، وعادت من أهم مراكز نشر الثقافة الإسلامية في البلاد... وعرفت بمساجدها الجامعة ومدارسها الإسلامية التي بلغ عددها 180 مدرسة، تضم كل واحدة منها أكثر من 100 طالب في القرن الـ 16 الميلادي... وفي المدينة عدد كبير من القضاة والعلماء والفقهاء، وتباع فيها أعداد كبيرة من الكتب الواردة إليها من بلاد العرب، فتدر أرباحاً تفوق السلع الأخرى كلها... كما كان عدد علمائها في ذلك الوقت 330 عالماً».
وإلى ذلك، فإن المدينة التاريخية التي رفعت راية الإسلام والعروبة على مدى قرون خفاقة في تلك الناحية من العالم، باتت مهددة بأن تطمرها الرمال، وبمزيد من العزلة الثقافية والحصار الاقتصادي اللذين دفعا علماءها وتجارها إلى الهجـرة إلى بلدان مجاورة أو قصية، تعدّ في مرتبة أدنى من مدينتهم (لا يربطها طريق مسفلت بأي مكان آخر!).
مجسم للملك الذي يزعم سكان تنبكتو أنه يحرس المدينة من الشياطين. وإذا كانت معضلة عرب المنطقة وطوارقها مبدأها تهميش مناطقهم، وإهمالها تنموياً من حـكومة (مـالي)، فإن العرب والمسلمين الذين تضم المدينة تراثهم، وترمز لتاريخهم وثقافتهم في تلك المنطقة جديرون بأن يمدوا إليها أيادي الحب، عبر إقامة مراكز ثقافية ومعاهد علمية، وجامعة للعلوم الإسلامية والعربية، تبقي للمدينة ريادتها العلمية والعربية، إضافة إلى دعم المشاريع القائمة فيها أساساً بجهود ذاتية من أبناء المنطقة، مثل (مركز أحمد بابا) للمخطوطات، الذي يضم 12 ألف مخطوطة إسلامية وعربية، تمكن من شرائها وجمعها بتعاون من سفارة (السعودية) في مالي، التي أسف مدير المركز لقطعها دعمها عنهم منذ ثلاثة أعوام.
- جلب «الملح» من منجم «تودني» أهم ما يميز قبائل «العرب» في المنطقة: الاستعمار أوهن «شعب أزواد» بتفكيك «سلطناته»
مركز «أحمد بابا» للمخطوطات الإسلامية والعربية في تنبكتو.أي وفاء وعدل هذا الذي يجده عشاق تنبكتو منها؟ فهي – مثلما يقول أحدهم عبدالله ولد محمد المنذر – «قسمت أيامها ولياليها بين الهائمين بها، فكان لها مع كل طائفة منهم يوم، وساعة بوح ٍ لا تتخلف عنها. إنها بعدل وحكمة وزعت مفاتنها بينهم، وأعطت رؤساء الدول مثل البؤساء. استقبلتهم جميعاً برمالها الذهبية. ولم تتشح لأحدهم بالورد ولم تتعطر. خصصت للعبيد – قديماً – سوقاً مثلما هيأت للكتب سوقاً أخرى».
تلك هي تنبكتو... على رغم ندوبها لم تزل بكل مفارقاتها تصارع الرمال الزاحفة إليها، وتتحدى الفناء.
هبطت بنا المروحية آتية من باماكو - عاصمة مالي التي اكتست بثياب من الخضرة وأشجارالبرتقال والمانجو، فيما السحب تدنو منك... كأنها تتوسل إليك أن تبقى. في مطار تنبكتو بعد ثلاث ساعات من الطيران، أين السحب؟ أين الخضرة؟ أين الهواء العليل؟ لا شيء مما تركناه في باماكو هنا.. درجة الحرارة تتجاوز 40 درجة. العواصف تلفحك بنارها. لا شيء يستحق العشق هنا، قلت في نفسي!
بدا المطار معقولاً، بعد ذلك قيل لي إن البنك الإسلامي للتنمية أقامه للمدينة، بقصد أن يكون دولياً إلا أن حكومة مالي أبقت عليه محلياً! نظرت حول المطار يميناً وشمالاً مثل بقية الركاب الأجانب. فلم أجد أي بنيان أو عمارة. فأين تنبكتو؟
بقيت دقائق أنتظر أحد سكان المدينة (محمدون أق (بن) أكحتي) الذي أوصاه مرافقي أحمد في باماكو باستقبالي. أثناء الجولة في محال المطار التجارية، استوقفني قميص عليه صورة جملين وعبارة سألت عنها فقالوا معناها: «كنت في تنبكتو وسأعود». عدت بالسؤال مباشرة إلى شخص بدا من سحنته غربياً إلى جانبي قائلاً: «هل كنت في تنبكتو وعدت الآن»؟
أحد الحاضرين تطوع بترجمة سؤالي. ضحك الغربي على طريقته وسألني بدوره: «هل هذه أول زياراتك للمدينة؟» أجبت: «نعم، ولا أعتقد بأنني سأعود». ضحك أكثر، وأضاف: «ولكنك ستعود مثلي، فهذه زيارتي الثالثة لتنبكتو، ستسحرك مثلما سحرتني»!
لم ينته الزائر الغربي من حديثه حتى جاء مضيفي، وذهبت معه في سيارة استأجرها إلى المدينة على بعد ثلاثة كيلومترات تقريباً.
كانت فجيعتي أعظم عندما شاهدت المدينة. ظننت تنبكتو «إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد». فإذا بها مجرد حي من الطين يسبح على تلال من الرمل الأبيض. لو جئتها سائحاً لعدت من هول الصدمة مباشرة، ولكنني جئت في مهمة صحافية.
ان الصدمة لم تدم طويلاً. وهذا السر الذي أخذ بألباب الزعماء والأدباء والذواقة معاً. مدينة لا تملك من المقومات سوى المياه والكهرباء، وتسحر الإنسان بقدرة فذة. إنها قبلة مناسبة لأولئك الذين يعشقون التاريخ والبساطة والأسطورة.
في المساء نتجول ثلاثتنا: الحسن أق تكين ومحمدون أق أكحتي وأنا، في أزقة المدينة. الحسن يفيض في الحديث عن تاريخ أي بقعة، وأسطورة أهل المدينة حولها، وهو يتحدث بلهجة الطوارق (تماشق) تارة وبـ «الحسانية» لهجة عرب تنبكتو تارة أخرى.
مضى الحسن وكل حديثه في سياق الخرافة والأسطورة، وهو يتحدث عن مقابر الأولياء وشد الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية الرحال إليها، حتى إذا أتى على محل في وسط المدينة زعم أنه فندق ينزل فيه كل عام الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر!
لم يهتم أق تكين (45 عاماً، قضاها كلها في تنبكتو) بدهشتي وقال: لماذا تستغرب؟ لم يكن جيمي كارتر الزعيم الوحيد الذي أتى إلى هذه المدينة التي تحتقرها. زارها الملك فيصل بن عبدالعزيز، وزايد آل نهيان، وجاك شيراك، وكوفي أنان... وغيرهم».
تبدأ أول أسطورة في المدينة عند أول إنسان أنشأها، ويقولون: «إن المدينة بنتها قبيلة إمقشرن التي تعود أصولها إلى الأشراف، ومنهم المرأة التي نسبت إليها المدينة، فالاسم مركب من كلمتين طارقيتين «تن» أي صاحبة و«بكتو» وهي اسم المرأة».
وفي المتحف البلدي الذي تضمن وسائل الحياة البدائية للسيدة «بكتو» التي اكتسب اسمها انتشاراً واسعاً بحمل أشهر مدينة إسلامية وعربية في صحراء العرب والطوارق له، يوجد دلو، وخيمة من خيش، وبئر، وبكرة من خشب تجسد وسائل حياة تلك المرأة، فيما يضم المتحف أدوات من حجر كانت تطحن به طعامها، وآنية من قرع متعددة الأصناف، وأخرى من الفخار، وأشياء مختلفة الأغراض.
الباب المربوط بقيام الساعة
إذا ما تقدمت يسيراً نحو البوابة)ناحية المدينة القديمة، تجد الناس جماهير محتشدة على الباب الذي يزعم أهل المدينة أنه إذا فتح، تقوم الساعة. كأن مفاتيح القيامة بيد السنغائية التي تحرس ذلك الباب.
ويروي بعض سكان المدينة أن أحد الأمراء السعوديين طلب من الحارسة أن تسمح له بفتح الباب في مقابل مبلغ ٍ من المال، فارتعدت الحارسة خوفاً من أن تنزل القيامة على الناس بغتة، فقالت له: «أنا لا أستطيع منعك، ولكنني لست مسؤولة عن مصيرك والناس الذين حولك عندما تفتح الباب»! وبدهشةٍ ترقب الزوار الأمير وهو يفتح الباب الخشبي بعد دهمه برجله، فلم يجد وراءه غير طين وخردوات. لكن الذين يقتاتون على الخرافة أعادوا ترميـمه من جديد. وهـكذا لم تقم الساعة إلا على الباب المتهالك.
الملَك الذي يحرس تنبكتو
ويبلغ الاعتداد بالنفس ذروته حينما يزعم أهل تنبكتو أن ملـَكاً على صهوة جوادٍ نزل من السماء، انتدبه ربه لحراستها من الشياطين والأشرار، وفي وسط المدينة اليوم تنصب وكالة السياحة تمثالاً لـ «الجواد الأبيض» يمتطي صهوته رجل بجناحين، في إشارة إلى الملك المزعوم، الذي لم يدفع عنهم – طبعاً – كل الغارات التي شنتها حكومات ومحتلون استهدفوا المدينة المقدسة في نظر أهلها!
إلا أن فرسان تنبكتو العرب والطوارق، على رغم ذلك، سجلوا مواقف مشرفة ضد المحتلين الفرنسيين الذين اعترف أحدهم (بول مارتي) في كتابه عن قبائل المنطقة (كنته – كلنتصر – البرابيش) بأنهم واجهوا - أي الفرنسيين - منهم مقاومة شرسة، خصوصاً من المجاهدين: فهرون، ومحمد علي الأول الشهيربـ «إنغونا»، ومحمد كاوصن واللاّدي أق البشير، ومحمد علي أق الطاهر، وغيرهم.
وإلى هذه المجموعة من المجاهدين الذين توالوا على مقاومة المحتل الفرنسي في سلطان تنبكتو وما يتبعه، يعود فضل فشل كل الأطماع الاستعمارية في تلك الناحية، إذ يقول المؤرخ الطارقي العتيق سعد الدين «ولا نعرف أن دولة بعينها استطاعت استتباع قبائل الصحراء بالقوة، أو أن الطوارق أنفسهم استطاعوا تكوين دولة مستقلة، بعد سقوط دولة المرابطين، والمملكة الوحيدة التي انقادوا لها ودخلوا تحت سيادتها هي المغرب».
سور أقامته اليونسكو على المقابر التاريخية كلها في تنبكتو.ومع أن المقومات الثقافية والتاريخية التي اشتهرت بها المدينة باتت منها اليوم شبه خالية، إلا أن أصالتها التاريخية ومكانتها القديمة، جعلتاها تحتفظ بشيء من ذلك، وإن بصورة دون التي سادت في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية والعربية فيها، إبان ملك سلطان مالي المسلم منسا موسى - الذي حكم بين 1342 و1360، ويعد صاحب أشهر رحلة حج في التاريخ، بحمله في أول رحلة قادها إلى الديار المقدسة بعد ملكه 12 طناًّ من الذهب، الأمر الذي أدى إلى انخفاض سعر هذا المعدن الثمين في أسواق القاهرة. ولم تزل المدارس العربية، ومراكز المخطوطات الإسلامية، والمساجد، والزوايا العلمية، إضافة إلى المقابر التاريخية التي تضم بين بطحائها نحو 360 من الأولياء الذين يتبرك بهم أهل تنبكتو، ذات حضور مقبول.
وفي هذا الصدد، يشار إلى أن منظمة اليونيسكو سجلت والبنك الإسلامي للتنمية رقماً قياسياً في الاهتمام بهذه المدينة العربية والتاريخية، فكما أقام البنك لها مطاراً جوياً يربطها بالعالم، سوّرت «اليونيسكو» مقابرها التي تعد واحدة من أهم المقابر في العالم، حتى عُدّت تنبكتو بأوليائها ومقابرها (كربلاء الصحراء)!
هكذا تنبكتو اليوم فكيف كانت من قبل؟
يروي الدكتور الهادي المبروك الدالي في بحث له عن (تنبكتو) أن المدينة شرعت في بناء منازلها ذات الأسقف المنتظمة بعد أن حكمها الملك (منسا موسى) بفترة قليلة. وأشار إلى أن الحسن الوزاني، وهو عالم مغربي زار (تنبكتو) بعد عهود من حكم (منسا موسى) لها، وصف المدينة بأنها «ذات جمال رائع، وكان أهلها يدينون بالإسلام، ويحبون السنة، ويحاربون البدع، فلهذه المدينة فضائل عدة ، فإن من دخلها خائفاً وجد الطمأنينة ومن سكن فيها عاماً أو أكثر نسي فعلته وتاب عند دخوله لها، فهي دار فقه وعلم وصلاح، إذ سكنها صفوة من العلماء والفضلاء، حتى لا يوجد مكان من المدينة إلا وفيه ولي من أولياء الله الظاهرين والباطنين»، كما قال عنها السعدي «ما دنستها عبادة الأوثان، ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين وملتقى الأولياء والزاهدين». أما الآن فيها (خمس) كنائس!
أما أهلها فقال عنهم: «امتازوا بالسماحة فلم يكن منهم من به فظاظة، وكانوا كرماء، يحبون الغريب ويحترمونه، ويقدمونه على أنفسهم، ولا ينسون من عاشرهم من الناس».
ومع أن السعدي - كما ينقل عنه الدالي - رأى أن ذلك «ليس بغريب فالإسلام حمل معه إلى تلك الجهات الصفات الحميدة التي كان لها تأثيرها بين الشعوب الافريقية التي حملت بدورها المؤشرات الحميدة إلى أرجاء السودان الغربي، فلا عجب إذاً أن صارت تنبكتو مقامها من السودان مقام الوجه من الإنسان»، إلا أن الصفات التي امتاز بها أهل تنبكتو ربما كانت هي السر الأكبر في ولع الناس من كل الطبقات بها، على رغم التحول الكبير في السكان، وقسوة ظروفهم المعيشية عكست حالها في عهدٍ، كانت فيه ملتقى القوافل، مثلما هي ملتقى العلماء والأولياء.
ويؤكد السعدي نفسه أن العلماء وأهل الفكر في ذلك الحين «وجدوا تشجيعاً من أهل تنبكتو وملوكها، الذين أغدقوا عليهم بسخاء، الأمر الذي أدى إلى بلورة حركة علمية وأدبية واسعة النطاق لم يعرف السودان الغربي لها مثيلاً، ولم تكن الصحراء الكبرى حاجزاً لتدفق مظاهر الحضارة من شمال القارة الأفريقية وجنوبها وغربها في يوم من الأيام، بل كانت المؤثرات الثقافية والفكرية تتسرب من الشمال الأفريقي إلى السودان الغربي والأوسط وكانت الحضارة التي شهدتها مدينة تنبكتو أصدق مثال لذلك، فقد ازدهرت ثقافياً متأثرة بالتيارات الفكرية والحضارة الوافدة إليها من الشمال الأفريقي لا سيما ما بين القرنين السادس والتاسع الهجريين، الـ 12والـ 15 الميلاديين. ووصلت تنبكتو في هذه الفترة إلى قمة مجدها في تطورها العمراني والثقافي».
ويعود تأسيس المدينة إلى عام 1100، عندما أقام الطوارق مخيماً لهم في المنطقة، تحرسه سيدة أفريقية اسمها «تنبكتو» كما جاء في دراسة أفريقية عن مملكة مالي الإسلامية.
وجاء بحسب رواية الدراسة، أن المدينة عرفت باسم السيدة تنبكتو «وسرعان ما توسعت وأصبحت من أهم المدن التجارية في مالي... لوقوعها على نهر النيجر... كما عرفت بأنها المدينة الإسلامية التي لم يسجد أحد فيها الاّ لله تعالى... بحسب ما جاء في كتب المؤرخين، وعادت من أهم مراكز نشر الثقافة الإسلامية في البلاد... وعرفت بمساجدها الجامعة ومدارسها الإسلامية التي بلغ عددها 180 مدرسة، تضم كل واحدة منها أكثر من 100 طالب في القرن الـ 16 الميلادي... وفي المدينة عدد كبير من القضاة والعلماء والفقهاء، وتباع فيها أعداد كبيرة من الكتب الواردة إليها من بلاد العرب، فتدر أرباحاً تفوق السلع الأخرى كلها... كما كان عدد علمائها في ذلك الوقت 330 عالماً».
وإلى ذلك، فإن المدينة التاريخية التي رفعت راية الإسلام والعروبة على مدى قرون خفاقة في تلك الناحية من العالم، باتت مهددة بأن تطمرها الرمال، وبمزيد من العزلة الثقافية والحصار الاقتصادي اللذين دفعا علماءها وتجارها إلى الهجـرة إلى بلدان مجاورة أو قصية، تعدّ في مرتبة أدنى من مدينتهم (لا يربطها طريق مسفلت بأي مكان آخر!).
مجسم للملك الذي يزعم سكان تنبكتو أنه يحرس المدينة من الشياطين. وإذا كانت معضلة عرب المنطقة وطوارقها مبدأها تهميش مناطقهم، وإهمالها تنموياً من حـكومة (مـالي)، فإن العرب والمسلمين الذين تضم المدينة تراثهم، وترمز لتاريخهم وثقافتهم في تلك المنطقة جديرون بأن يمدوا إليها أيادي الحب، عبر إقامة مراكز ثقافية ومعاهد علمية، وجامعة للعلوم الإسلامية والعربية، تبقي للمدينة ريادتها العلمية والعربية، إضافة إلى دعم المشاريع القائمة فيها أساساً بجهود ذاتية من أبناء المنطقة، مثل (مركز أحمد بابا) للمخطوطات، الذي يضم 12 ألف مخطوطة إسلامية وعربية، تمكن من شرائها وجمعها بتعاون من سفارة (السعودية) في مالي، التي أسف مدير المركز لقطعها دعمها عنهم منذ ثلاثة أعوام.
- جلب «الملح» من منجم «تودني» أهم ما يميز قبائل «العرب» في المنطقة: الاستعمار أوهن «شعب أزواد» بتفكيك «سلطناته»